أزياء و أناقة

أخبار المشاهير

مكياج

'التحرّش الجنسي' عندما تتحوّل المرأة من ضحية إلى متهمة

«التحرش الجنسي» كابوس يتوغّل داخل الشارع المصري الذي تغيرت معالمه تدريجاً حتى انقلبت مفاهيمه رأساً على عقب، فاستبدل البلطجة بالأمن، والصمت بالشهامة. أصبح من العادي أن تخرج الفتاة إلى الشارع والعمل والمدرسة والمواصلات العامة وهي تعلم أنه عليها وحدها مقاومة المتحرّشين. لن ينفعها التذمر، فالمتحرّش لا يعرف «العيب»، والمجتمع لا يلقي بالاً لما يحدث، والقضية برمتها لا تشغل أحداً سوى السيدات اللواتي تحوّلن من ضحية لسلوك اجتماعي مريض إلى متهم في عيون المجتمع الذي يلقي عليهن باللوم ولا يعترف باحتلال مصر المركز الثاني في معدلات التحرش الجنسي بعد أفغانستان، حسب الإحصاءات الأخيرة التي أشارت إلى تجاوز القضية مرحلة «ناقوس الخطر» إلى مرحلة «الجريمة الاجتماعية».


لم تكن في سنّ يسمح لها باستيعاب الأمر سريعاً، فذكرى قصتها الأولى مع التحرّش كانت في مرحلتها الثانوية، قبل أن يتحوّل الأمر بالتدريج إلى جزء من رحلتها اليومية مع الحياة. رنّ جرس الباب فأسرعت نحوه مستكشفة سر الزيارة الصباحية غير المتوقعة. على عتبة بابها وقف ممسكاً بحقيبة صغيرة وقوائم ورقية لا تنتهي، نظرت إليه بقلق قبل أن يطلب منها فاتورة «الكهرباء» لتجيبه بعفوية إن والديها في العمل، التفت حوله قبل أن يمد إليها يديه بالفاتورة متحسساً جسدها بحركات ظن أنها لن تفهمها، انتفضت صارخة في محاولة للتملّص قبل أن يفر هارباً خوفاً من خروج الجيران، ويتركها مذهولة على عتبة الباب، ويترك في عقلها ذكرى لن تنساها طيلة حياتها. فاطمة عبد الله ذات الـ24 عاماً، واحدة من آلاف الفتيات اللواتي يواجهن ظاهرة التحرش يومياً، قررت مواجهة الأمر مثل غيرها من الفتيات، فخرجت إلى الشارع بحثاً عن طموحها وسط غابة من المتحرشين ومئات المواقف التي فرضتها عليها رحلتها اليومية في وسائل المواصلات العامة. 

رحلتها من منزلها إلى مقر عملها في وسط المدينة تستغرق ساعة كاملة من المواجهات بينها وبين المتحرّشين في المواصلات العامة وعربات المترو، ولم يمنعهم الحجاب الذي ترتديه من تفحّصها بدقة، بعضهم من يكتفي بالنظر والبعض الآخر من يلتصق بها بحجة الزحام. «الموضوع يزداد كل يوم»، هكذا بدأت فاطمة حديثها عن حكايات التحرّش اليومية في الشارع والمواصلات العامة، وتقول: «لا أذكر يوماً مر عليَّ دون التعرض لأحد المواقف في المواصلات أو الشارع، فيومياً أضطر لمواجهة من يحاول الالتصاق داخل الأتوبيس، أو من يضربني على جسدي ويفرّ مسرعاً. اعتدت التجول في الشوارع بقلق وسط الزحام، متوقعة دائماً أن أتعرّض لموقف مباغت لا يستغرق دقائق».
تكمل فاطمة: «لم يعد التحرّش مرتبطاً بزي معين، أو بسنّ الفتاة التي تتعرّض له، فإلى جانب المواقف التي أتعرّض لها يومياً، هناك مئات المشاهد المسجلة في رأسي لمواقف مماثلة وقفت لمراقبتها، لفتيات في سني أو سيدات في سن أمي، لا يفرّق المتحرش بين محجبة أو منتقبة أو عجوز في الستين، فالشارع مسرح  لممارسة كل ما هو متاح طالما اختار الباقون الصمت أثناء مشاهدة ما يحدث».



«اسكارف التحرّش»

على جانب الطريق وقفت متلفتة قبل أن تعبر الشارع في قلق اعتادت التجوّل به في شوارع المدينة الكبيرة، اصطدمت عيناها بعيون بعض المارة قبل أن تقرر العبور ممسكة بالـ»اسكارف» الذي حرصت على ارتدائه يومياً لتغطية جسدها بالكامل أثناء رحلة الوصول إلى الجامعة. تمهلت قليلاً في منتصف الطريق لتعبر السيارة المسرعة قبل أن تفاجأ بضربة مباغتة من أحد المارة بجانبها، وفر من أمامها مسرعاً. تسمّرت في مكانها غير مصدقة ما حدث في وضح النهار على مرأى ومسمع من الجميع، ولم يلق أحد المارة أو الجالسين على الرصيف المقابل بالاً لصراخها، وما ألقته من شتائم على المتحرش الذي اختفى من أمامها، واكتفوا بمتابعة الموقف في صمت أصبح هو المعتاد. لم يكن هذا الموقف هو الأول من نوعه في حياة مها الريس الطالبة في الجامعة الأميركية، التي خصصت من دولاب ملابسها ما يصلح للنزول إلى شارع مليء بالمتحرشين، فملابسها النهارية الفضفاضة والشال الواسع الذي أطلقت عليه اسم «اسكارف التحرش»، لم يمنع المتسللين من انتهاكها بلمسات مباغتة وعبارات خادشة للحياء. «الشارع لم يعد مكاناً يصلح للتجول، والمواصلات العامة مقصورة على الرجال». 

هكذا تصف مها الشارع الذي كثيراً ما دفعها للاكتئاب والاشمئزاز من كل ما هو ذكوري، في مخيلتها راحت تسأل نفسها باستمرار عمن يسمح لنفسه بانتهاك حرية الفتيات وحقوقهن في السير أو ركوب المواصلات، لكنها لم تجد سوى إجابات زادت حيرتها أمام ظاهرة تزداد يوماً بعد آخر. تقول مها: «إلى جانب ما أشعر به من إهانة واشمئزاز من هذه المواقف اليومية، فإن أكثر ما يثير غضبي هو تجاهل الأمر من المحيطين بي، سواء في الشارع أو المواصلات، علاوة على عبارات «اسكتي، متفضحيش نفسك»، وهي العبارات التي أواجهها بثورة من الغضب على من يلقي عليَّ باللوم لمجرد قرار النزول، وكأن التحرش هو حق مكتسب لكل رجل رأى أن من الطبيعي أن تقبل الفتاة بانتهاكها بنفس راضية». مها اختارت المواجهة لا الصمت، وقد يصل رد فعلها إلى ضرب المتحرش في بعض الأحيان إذا سمح لها الأمر، وسبّه بصوت عالٍ في أحيان أخرى: «اعتدت اختيار ملابس فضفاضة قبل النزول إلى الشارع، فيومياً أحاول وضع التحرش في اعتباري قبل خروجي من المنزل. ولا أعرف إلى متى سيصمت المجتمع على هذه الانتهاكات الفاضحة التي لم يعد من المقبول السكوت عنها».


نظرات باردة

داخل سيارتها المغلقة التي اختارت إغلاق شبابيكها دائماً، اعتادت أسماء الزهيري، التي تعمل مترجمة صحافية ومدربة آيروبكس، الذهاب إلى عملها. لم تكن تتوقع أن يصل إليها المتحرش في طريقها من باب المنزل إلى السيارة التي حاولت الاختباء داخلها من شارع لم يعد يعرف «العيب»، أوقفت السيارة في موقف ظنته آمناً على كورنيش المعادي، قبل أن تنزل مسرعة للحاق بموعد مهم في مكان قريب. وفي طريق العودة ظل يتتبعها ببطء، فانتابها إحساس بالقلق من نظراته التي لاحقتها أينما ذهبت، وتعمدت الوقوف في منتصف الطريق ليمر من أمامها، لكنه أبطأ سيره حتى تهم بالسير مرة أخرى. قبل أن تصل يداه إلى جسدها التفتت ثائرة وواجهته بغضب: «هل تريد شيئا؟»، لتصطدم بنظراته الباردة وكأن شيئاً لم يكن. لم تتمالك أعصابها أمام رد فعله، خاصة بعدما اكتشفت أنه عامل في الموقف الذي ركنت فيه السيارة قبل قليل. النظرات الجامدة من المحيطين بها ورفضهم التدخل هو ما زاد سخطها على الشارع الذي لم يعد التجول فيه أمراً سهلاً لفتاة مهما بلغ سنها أو اختلفت ملابسها.

«الموضوع لم يعد هل تملك الفتاة سيارة أم تستقل  مواصلات، التحرش أصبح في كل مكان»، هذا ما تقوله أسماء وتضيف: «ليس ذنبي أن الصمت أصبح من شيم الشارع المصري، فالتعرض للتحرش ليس خطأ الفتاة كما اختار المجتمع أن يلقي عليها باللوم. أحاول دائماً مواجهة الأمر بكل ما أملك من قوة، ولن أصمت أمام من يحاول انتهاك حريتي في السير في شارع لم يعد يعرف حدوداً، وأصبح المتحرش فيه أكثر تبجحاً مما يجب، وكأن التحرش حقه ولا أملك حق الاعتراض».
تكمل أسماء: «اللافت هو دفاع المتحرش عما يفعل ورفضه الاعتراض على الأمر، وهو ما يثبت عدم خوفه من العقاب أو المواجهة، فالمجتمع سمح له بممارسة هذا الفعل الفاضح الذي تحول إلى أمر عادي في حياتنا اليومية».


دراسة

من بين القصص المتشابهة، انطلقت الحركات المناهضة للتحرش، كقوة مضادة لظاهرة يقبلها المجتمع، قبل سنوات لم تكن المواجهة أمراً مقبولاً، ولم يكن اعتراف الفتاة بالأمر شيئاً قد يمر بسهولة، منذ عام 2005 بدأت منظمات المجتمع المدني في سلك طريق «الفضح» كوسيلة للتعبير عن الرفض لهذه الظاهرة المتزايدة، وشجعت الفتيات على تسجيل ما يحدث لهن في الشارع والمواصلات والحياة اليومية، حتى تحولت الشهادات الموثقة من الفتيات اللواتي يتعرضن للتحرش واعترافهن بالأمر إلى الصرخة الأولى، التي أعقبها صراخ متواصل لرفض ما يحدث، وانتشرت الدراسات التي ترصد معدلات زيادة ظاهرة التحرش وتوثق ما يحدث، وعلى رأسها الدراسة الأخيرة التي أطلقها المركز المصري لحقوق المرأة بعنوان «غيوم في سماء مصر»، والتي كشفت أن 91 في المئة من المصريات يتعرضن للتحرش بصفة دائمة، من بينهن  64.1 في المئة ممن يتعرضن للتحرش الجنسي بشكل يومي، وصنّفت الدراسة بين عينة المبحوثات ممن يتعرضن للتحرش بصفة يومية أو أسبوعية أو شهرية، فأشارت إلى أن 33.9 في المئة يتعرضن للتحرش أكثر من مرة وليس بشكل يومي، بينما يتعرض 10.9 في المئة للتحرش بصفة أسبوعية، وفي المقابل تتعرض 3.9 في المئة للتحرش بصفة شهرية، كما أكدت الدراسة أن المتحرش لا يفرق في المستوى الاقتصادي للضحية، وضمت الدراسة عينة من الأجنبيات اللواتي يعانين من التحرش.
كما كشفت الدراسة عن أن 72 في المئة ممن يتعرضن للتحرش محجبات، وانقسمت أشكال التحرش التي رصدتها الدراسة إلى سبعة أشكال من التحرش، هي: لمس جسد الأنثى، المعاكسات الكلامية، النظرة الفاحصة الى الجسد، التلفظ بألفاظ ذات معانٍ جنسية، الملاحقة والتتبع، المعاكسات الهاتفية.


خريطة

منذ عام 2009 انطلقت فكرة وجود خريطة لرصد أماكن التحرش الجنسي والإبلاغ عن الحوادث المتتالية، ونجحت في جمع ما يزيد على 2000 شهادة تحرش من فتيات عانين من الظاهرة منذ توثيق مبادرة «خريطة التحرش الجنسي» عام 2010 وحتى اليوم.
إنجي غُزلان إحدى مؤسسات مبادرة «خريطة التحرش الجنسي»، وناشطة حقوقية في الدفاع عن المرأة، تحدثت عن المبادرة وما تقوم به في مواجهة التزايد المستمر لظاهرة التحرش، خاصة بعد أن خرقت معدلاتها كل الحدود عقب ثورة «25 يناير».
تقول إنجي: «كان هدفنا منذ البداية كسر حاجز الصمت عند الفتيات أولاً، وإقناعهن أنهن ضحايا، وإعطاء الفتيات فرصة فضح المتحرش، لأن الحديث عن الأمر هو بداية اعترافنا بالرفض لما يحدث، والصمت يزيد الأمر سوءاً».

تكمل إنجي: «بدأنا بخريطة من خلال موقع إلكتروني، يجمع الشهادات من الفتيات ويوثّق أكثر المناطق التي يحدث فيها التحرش, ونجحنا في جمع الشهادات التي لا تتوقف يومياً حتى الآن. بدأنا النزول إلى الشارع عن طريق مجموعات من المتطوعين تنقسم تبعاً للمناطق السكنية، وحاولنا إقناع الناس في الشارع بمواجهة الأمر بشجاعة، بدايةً من الاعتراف به وحتى رفضه بكل الأشكال الممكنة. أجرينا مسحاً لمجموعة من المناطق التي نجحنا في إقناع أهلها بعدم السكوت في حالة حدوث موقف أمام أعينهم، ثم علقنا على شوارع المناطق التي انتهينا من العمل فيها لافتة «شارع آمن»، وما زلنا مستمرين في الحملة التي نحاول النزول بها إلى المحافظات».

تضيف إنجي: «عدد الشهادات الموثقة في زيادة مستمرة، وهذا دليل على نجاحنا في كسر حاجز الخوف عند الفتيات، في بداية الأمر قوبلت الحركة بالهجوم، حتى تحولت إلى ساحة لفضح المتحرّشين، ولا تعني زيادة الشهادات زيادة معدلات التحرش، فهي ظاهرة موجودة ومعترف بها، لكنها تعني زيادة الوعي عند الفتيات والسيدات اللواتي يتعرضن للأمر، فالتحرّش الجنسي لن ينتهي في مصر سوى برفض المجتمع لهذا السلوك... نحن في حاجة إلى قانون يحمي النساء، لكنه ليس كافياً وحده، فالحل الأول أن نكف عن لوم الفتيات».


بعد الثورة

تبذل جمعية النهوض بالمرأة جهداً كبيراً في الدفاع عن حقوق المرأة، ولها باع طويل في مناهضة ظاهرة التحرش على مدار سنوات. وتتحدث رئيسة الجمعية الدكتورة إيمان بيبرس عن أخطر التطورات في ظاهرة التحرش الجنسي بعد الثورة، وعن دور المجتمع المدني في حماية السيدات فتقول: «التحرش في مصر بعد الثورة تحول من كبت جنسي إلى عنف ممنهج لإقصاء المرأة عن الشارع». هكذا بدأت بيبرس حديثها عن أخطر التحولات في الظاهرة التي تفاقمت بعد الثورة.
وتضيف: «التحرش الجنسي ظاهرة أثبتت وجودها بقوة في نسيج المجتمع المصري على مدار السنوات الأخيرة، حتى تحولت من كبت جنسي إلى عنف مقصود هدفه إقصاء المرأة وإبعادها عن المشاركة في المجتمع، بداية من مواجهاتها بالتيارات الدينية المتشددة، التي ترفض وجودها وسط الرجال، ووصولاً إلى منعها عن قصد من النزول إلى الشارع».

أما عن البحث الأخير للجمعية فتقول: «البحث الأخير الذي أجرته جمعية النهوض بالمرأة كشف بالأدلة عدم تمييز المتحرش للمرأة المحجبة أو المنتقبة، وهو ما يقف في وجه كل من يلقي باللوم على ملابس الفتاة، وكشفت الدراسة التي أجرتها الجمعية على 500 سيدة، أن النسبة الكبرى ممن يتعرضن للتحرش من المحجبات، وأن العينة بالكامل تعاني من التحرش بشكل يومي، وتختلف القصص التي روينها بين التحرش في الشارع أو العمل أو المواصلات العامة، إلا أنها في النهاية تشابهت في شكل الاعتداء وقوته ودفاع المتحرش عن نفسه ورفضه لتقبل اللوم أو المواجهة من الضحية».

وعن الحركات المتعددة، التي بدأت في الظهور في الشارع المصري لرفض الظاهرة، مثل «خريطة التحرش الجنسي»، «امسك متحرش»، «قوة ضد التحرش»، «حركة نفسي»، «نظرة»، «نظرة للدراسات النسوية»، «حركة شارع آمن»، وغيرها من المبادرات الشبابية المناهضة للظاهرة عامة وبعد الثورة بشكل خاص، تقول بيبرس: «الحركات الشبابية المناهضة أعتبرها صحوة مجتمعية ناجحة، لكنها ليست كافية لصد المتحرشين، أو صد العنف الممنهج الذي تروِّج له حركات وتيارات متشددة. يجب علينا التوجه إلى المحافظات والأقاليم، وعدم التوقف عن المواجهة مهما اشتدت الحرب بين منظمات المجتمع المدني والحكومة. وفي ظل كل السلبيات التي يعيشها المجتمع فإن أهم ما قدمته لنا الثورة هو كسر الخوف وانهيار حاجز الصمت».


الاستخدام الخاطئ للمفاهيم الدينية

 من الناحية الاجتماعية، يرجع الدكتور محمد غنيم، أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية الآداب في جامعة المنصورة، ارتفاع معدلات التحرش إلى مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، التي أدت جميعها إلى تخبط مفاهيم المجتمع وقبوله لعادات كانت تعتبر محرمة اجتماعياً في الماضي.
يقول الدكتور غنيم: «التحرش الجنسي في مصر يعتبر من المصطلحات التي لا يتجاوز عمرها العشرين عاماً على أكثر تقدير، وهي السنوات التي تغير خلالها نسيج المجتمع المصري الذي عرف قديماً باحترام المرأة وتقديرها، نتيجة لنشأته على تقاليد قدست مفهوم «العيب» الذي لم يعد موجوداً في الشارع».

وعن العوامل الاقتصادية والاجتماعية، يتحدث غنيم بشيء من التفصيل قائلاً: «التحرش الجنسي بدأ ظهوره في المجتمع نتيجة للتدهور الاقتصادي الذي تسبب بتأخر سن الزواج والكبت الجنسي الذي سمح بدخول عادات لم تكن موجودة من قبل، علاوة على إهانة التعليم والثقافة والانهيار الأخلاقي الذي أخذ خطواته شيئاً فشئياً في المجتمع حتى اختلفت التركيبة الاجتماعية للشارع المصري».
يكمل : «في المجتمعات المتقدمة والبسيطة تعتبر المرأة كائناً لا يمكن المساس به، أما المجتمع المصري فلا يندرج تحت أيٍّ من المسميات السابقة، فهو مثل «من رقص على السلم»، لم تعد عاداته واضحة، ولم يعد يعرف الفصل بين ما هو مقبول اجتماعياً أو ما لا يمكن قبوله».

أما عن السبب الأكبر في تفاقم الظاهرة حتى هذا الحد، فيقول غنيم: «أكبر الأخطاء التي أدت إلى تفاقم وضع الظاهرة في المجتمع، هو الفهم الخاطئ للدين، وظهور التيارات الدينية المتشدة منذ عصر الانفتاح الذي أعقبه انتشار الجماعات الإسلامية التي أثرت على ثقافة المجتمع المصري البسيط الذي اعتاد على الوسطية واتخذ منها دعامة قوية للتوازن بين الثقافة والدين. وبدأت علامات هذا التشدد في الفصل بين الجنسين منذ سن صغيرة، وربط المرأة بالخطاب الديني واتهامها الدائم بالفجور والسفور، والترويج لعبارات من نوعية «عمل المرأة حرام، واختلاط المرأة حرام» دون النظر إلى أصول المجتمع الذي خرجت به الفلاحة المصرية للعمل جنباً إلى جنب مع زوجها، أو إلى أصول الدين التي عرفت عمل المرأة في الإسلام، إلى جانب التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي عززت الثقافة الذكورية عند الجنسين من خلال تربية الفتاة على منعها من الاختلاط أو الخروج، وعبارات مثل «ما تخرجيش، ما تكلميش ولاد، اعملي لأخوكي» وغيرها من العادات التي عززت من شعور الذكر بأن الفتاة كائن أقل، ومن شعور الفتاة أنها لا تستطيع العيش بمفردها، وهو ما كوّن نوعاً من العزل التلقائي».

أما عن المرحلة التي يصفها غنيم بالفاصلة في تفشي ظاهرة التحرش بعد الثورة فقال: «الثورة كانت نقطة انهيار كل الحواجز أمام الظاهرة التي وجدت لنفسها أرضاً خصبة للنمو في ظل الانفلات الاجتماعي الذي أعقب الثورة، بعد تغيّر التركيبة الاجتماعية للمجتمع. فالثورة على أكبر رمز في الدولة سمحت بالثورة على كل الرموز الموجودة، سواء سياسياً أو اجتماعياً، فأصبح من العادي الثورة على رئيس العمل، أو الأستاذ الجامعي. ومن الطبيعي لهذه التركيبة الجديدة أن تثور على القيم والتقاليد، وتتشوه الأعراف، وهو ما زاد معدلات التحرش الجنسي كظاهرة اجتماعية كانت موجودة وساهم التخبط الموجود حالياً في زيادتها بشكل كبير».